أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
صدق الله العظيم
سورة البقرة آية 256
خواطر الشيخ الشعراوي حول الآية -الجزء الثاني-
إن الحق يعلمنا أن المتكبرين في الأرض بغير حق لن يستطيعوا الفوز برؤية آيات الله
ودلائل قدرته، وحتى إن رأوا السبيل الصحيح فلن يسيروا فيه، وإن شاهدوا طريق الضلال
سلكوا فيه لأنهم يكذبون بآيات الرحمن ويغفلون عنها. والغي ـ أيضا ـ هو ضلال الطريق،
فعندما يسير إنسان في الصحراء ويضل الطريق يقال عنه: " فلان قد غوى " أي فقد
الاتجاه الصحيح في السير، وقد يتعرض لمخاطر جمة كلقاء الوحوش وغير ذلك. ويوضح لنا
الحق طريق الرشد بمنطوق آخر في قوله الحق:* وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ
بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً *[الجن: 10]
إن الجن
قد ظنوا كما ظن بعض من معشر الإنس أن الله لن يبعث أحداً بعد الموت أو لن يرسل
رسولاً من البشر لهداية الكون. وقد طلب الجن بلوغ السماء فوجدوها قد مُلئت حرساً من
الملائكة وشُهباً محرقة. وإن الجن لا يعلمون السر في حراسة السماء وهل في ذلك شَرٌّ
بالبشر أو أراد الله بهم خيراً وهدى. إذن فالرُّشْد ـ بضم الراء وتسكين الشين ـ
والرَشَد بفتح الراء وفتح الشين كلاهما يوضح الطريق الموصل للنجاة. ويقابل الرشد
الغيّ.
ويتابع الحق: * فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىا * أولا: نلحظ أن الحق هنا قد قدم
الكفران بالطاغوت، ثم جاء بالإيمان بالله؛ لأن الأمر يتطلب التخلية أولا والتحلية
ثانيا، لابد أن يتخلى الإنسان من الطاغوت فلا يدخل على أنه يؤمن بالله وفي قلبه
الطاغوت، فنحن قبل أن نكوي الثوب نغسله وننظفه، والتخلية قبل التحلية.
وما هو "
الطاغوت "؟ إنه من مادة " طغى " ، وكلمة " طاغوت " مبالغة في الطغيان. لم يقل: طاغ،
بل طاغوت، مثل جبروت، والطاغوت إما أن يطلق على الشيطان، وإما أن يُطلق على من
يعطون أنفسهم حق التشريع فيكَفِّرون وينسبون من يشاءون إلى الإيمان حسب أهوائهم،
ويعطون أشياء بسلطة زمنية من عندهم، ويُطلق أيضاً على السحرة والدجالين، ويُطلق على
كل من طغى وتجاوز الحد في أي شيء، فكلمة " طاغوت " مبالغة، وقد تكون هذه المبالغة
متعددة الألوان، فمرة يكون الطاغي شيطانا، ومرة يكون الطاغي كاهناً، ومرة يكون
ساحراً أو دجالاً، ومرة يكون حاكماً.
ومادة " الطاغوت " تدل على أن الموصوف بها
هو من تزيده الطاعة له طغياناً، فعندما يجربك في حاجة صغيرة، فتطيعه فيها فيزداد
بتلك الطاعة طغيانا عليك. والحق سبحانه يقول:* فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ
إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ *[الزخرف: 54]
ويزيد في الأمر حتى يصير
طاغية، ولا يوجد أحد استهل عمله بالطغيان العالي، إنما يبدأ الأمر خطوة خطوة، كأي
نظام ديكتاتوري قهري، إنه يبدأ بـ (جس نبض) فإن صبر الناس، ازداد هذا النظام في
القسوة حتى يصير طاغوتا، إذن فالطاغوت هو الذي تستزيده الطاعة طغيانا، وتُطلق على
الشيطان؛ لأنه هو الأساس، وعلى الذين يتكلمون باسم الدين للسلطة الزمنية (سواء
كانوا كهاناً أو غيرهم)، وتُطلق على الذين يسحرون ويدجلون، لأنهم طغوا بما علموه؛
إنهم يستعملون أشياء يتعبون بها الناس، وقد جاءت الكلمة هنا بصيغة المبالغة
لاشتمالها على كل هذه المعاني، وإذا استعرضنا الكلمة في القرآن نجد أن " الطاغوت "
ترد مذكرة في بعض الأحيان، وقد وردت مؤنثة في آية واحدة في القرآن:
*
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ
لَهُمُ الْبُشْرَىا فَبَشِّرْ عِبَادِ *[الزمر: 17]
لقد أوضحت هذه الآية أنهم
تركوا كل أنواع الطغيان وأصنافه، أي إن الذين اجتنبوا الألوان المتعددة من الطغيان
هم الذين يتجهون بالعبادة الخالصة لله، ولهم البشرى. * فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىا *
وكلمة * اسْتَمْسَكَ * غير كلمة " مسك ". لأن * اسْتَمْسَكَ * تدل على أن فيه
مجاهدة في المسك، والذي يتدين يحتاج إلى مجاهدة في التدين؛ لأن الشيطان لن يتركه،
فلا يكفي أن تمسك، بل عليك أن تستمسك، كلما وسوس الشيطان لك بأمر فعليك أن تستمسك
بالتدين، هذا يدل على أن هناك مجاهدة وأخذاً وردّاً. * فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ * والعروة هي العلاقة، مثلما نقول: " عروة الدول " ، التي تمسكها
منه، وهذه عادة ما تكون مصنوعة من الحبل الملفوف المتين، و " الوثقى " هي تأنيث "
الأوثق " أي أمر موثوق به، وقوله: * فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىا
* ، قد يكون تشبيها بعروة الدلو لأن الإنسان يستخدم الدلو ليأتي بالماء، وبالماء
حياة البدن،وبالدين حياة القيم.
* فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىا
* كأنه ساعة جاء بكلمة " عروة " يأتي بالدلو في بال الإنسان، والدلو تأتي بالماء،
والماء به حياة البدن، إذن فهذه تعطينا إيحاءات التصور واضحة، * فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىا * ، وما دامت " عروة وثقى " التي هي الدين والإيمان
بالله، وما دامت هي الدين وحبل الله فهذه وثقى، وما دامت " وثقى " فلا انفصام لها،
وعلينا أن نعرف أن فيه انفصاماً. وفيه انفصام الأول بالفاء والثاني
بالقاف.
الانفصام: يمنع الاتصال الداخلي؛ مثلما تنكسر اليد لكنها تظل معلقة،
والانقصام: أن يذهب كل جزء بعيداً عن الآخر أي فيه بينونة، والحق يقول: * لاَ
انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * توحي بأن عملية الطاغوت ستكون دائماً
وسوسة، وهذه الوسوسة هي: الصوت الذي يُغري بالكلام المعسول، ولذلك أخذت كلمة "
وسوسة الشيطان " من وسوسة الحُليّ، ووسوسة الذهب هي رنين الذهب، أي وسوسة مغرية مثل
وسوسة الشيطان، والله عليم بكل أمر. ويقول الحق بعد ذلك: * اللَّهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ...
*
راجع الجزء الأول
راجع الجزء الأول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق