أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم
فَوَجَدَا عَبْدًا
مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا
عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ
رُشْدًا (66)
صدق الله العظيم
سورة الكهف
آيات 65 و
66
خواطر الشيخ الشعراوي رحمه الله حول الآية
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا
وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
سبق أن تحدثنا عن العبودية، فإنْ كانت لله تعالى فهي
العزّ والشرف، وإنْ كانت لغير الله فهي الذلُّ والهوان، وقلنا: إن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يأخذ حَظْوة الإسراء والمعراج إلا لأنه عبد لله، كما قال سبحانه:* سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ.. *[الإسراء: 1]
كما أن العبودية لله يأخذ فيه العبد خَيْر سيده، أما
العبودية للبشر فيأخذ السيد خَيْر عبده.
ثم وصف الحق سبحانه هذا العبد الصالح، فقال: * آتَيْنَاهُ
رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا.. * [الكهف: 65]وقد تكلم العلماء في معنى الرحمة هنا، فقالوا:
الرحمة وردتْ في القرآن بمعنى النبوة، كما في قوله تعالى:* وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ
هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ *[الزخرف: 31]
فكان رَدُّ الله عليهم:* أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ
رَبِّكَ.. *[الزخرف: 32]
أي: النبوة، ومطلق الرحمة تأتي على يد جبريل ـ عليه السلام
ـ وعلى يد الرسل، أما هذه الرحمة، فمن عندنا مباشرة دون واسطة الملَك؛ لذلك قال تعالى:
* آتَيْنَاهُ.. * [الكهف: 65] نحن، وقال: * مِّنْ عِندِنَا.. * [الكهف: 65]
فالإتيان والعندية من الله مباشرة
.
ثم يقول بعدها: * وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً..
* [الكهف: 65] أي: من عندما لا بواسطة الرسل: لذلك يسمونه العلم اللدني، كأنه لا حرجَ
على الله تعالى أن يختار عبداً من عباده، ويُنعِم عليه بعلم خاص من وراء النبوة.
إذن: علينا أنْ نُفرِّق بين علم وفيوضات تأتي عن طريق
الرسول وتوجيهاته، وعلم وفيوضات تأتي من الله تعالى مباشرة لمن اختاره من عباده؛ لأن
الرسول يأتي بأحكام ظاهرية تتعلق بالتكاليف: افعل كذا ولا تفعل كذا، لكن هناك أحكام
أخرى غير ظاهرية لها عِلَل باطنة فوق العِلل الظاهرية، وهذه هي التي اختصَّ الله بها
هذا العبد الصالح (الخضر) كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم.
والدليل على ذلك أن النبي يأتي بأحكام تُحرّم القتل وتحرم
إتلاف مال الغير، فأتى الخضر وأتلف السفينة وقتل الغلام، وقد اعترض موسى ـ عليه السلام
ـ على هذه الأعمال؛ لأنه لا عِلْم َله بعلتها، ولو أن موسى ـ عليه السلام ـ علم العلّة
في خَرْق السفينة لبادر هو إلى خرقها.
إذن: فعلم موسى غير علم الخضر؛ لذلك قال له:* إِنَّكَ
لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً
*[الكهف: 67-68]
فهذا عِلْم ليس عندك، فعِلْمي من كيس الولاية، وعلمك
من كيس الرسل، وهما في الحقيقة لا يتعارضان، وإنْ كان لعلم الولاية عِلَل باطنة، ولعلم
الرسالة عِلَل ظاهرة.
ثم يقول تعالى: * قَالَ لَهُ مُوسَىا هَلْ أَتَّبِعُكَ... *.
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ
رُشْدًا (66)
كأن موسى عليه السلام يُعلِّمنا أدب تلقّي العلم وأدب
التلميذ مع معلمه، فمع أن الله تعالى أمره أن يتبع الخضر، فلم يقُل له مثلاً: إن الله
أمرني أن أتبعك، بل تلطّف معه واستسمحه بهذا الأسلوب: * هَلْ أَتَّبِعُكَ.. * [الكهف:
66]
والرشد: هو حُسْن التصرّف في الأشياء، وسداد المسلك في
علة ما أنت بصدده، وسبق أن قلنا: إن الرُّشْد يكون في سنِّ البلوغ، لكن لا يعني هذا
أن كل مَنْ بلغ يكون راشداً، فقد يكون الإنسان بالغاً وغير راشد، فقد يكون سفيهاً.
لذلك لما تكلم الحق سبحانه عن اليتامى قال:* وَابْتَلُواْ
الْيَتَامَىا *[النساء: 6] أي: اختبروهم، واختبار اليتيم يكون حال يُتْمه وهو ما يزال
في كفالتك، فعليك أنْ تكلّفه بعمل لإصلاح حاله، وتعطيه جزءاً من ماله يتصرَّف فيه تحت
عينك وفي رعايتك، لترى كيف سيكون تصرفه.
عليك أنْ تحرص على تدريبه لمواجهة الحياة، لا أن تجعله
في مَعْزل عنها إلى أنْ يبلغَ الرشْد، ثم تدفع إليه بماله فلا يستطيع التصرف فيه لعدم
خبرته، وإنْ فشل كانت التجربة في ماله والخسارة عليه.
إذن: فاختبار اليتيم يتمُّ وهو ما يزال في ولايتك، وتحت
سمعك وبصرك رعاية لحقه.* حَتَّىا إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ.. *[النساء: 6] وهو سن
البلوغ، ولم يقُلْ بعدها: فادفعوا إليهم أموالهم؛ لأن بعد البلوغ شرطاً آخر* فَإِنْ
آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً.. *[النساء: 6] فعلى الوصيّ أنْ يُراعِيَ هذا الترتيب:
أنْ تُراعي اليتيم وهو تحت ولايتك، وتدفع به في مُعْتَرك
الحياة وتجاربها حتى يتمكن من مواجهة الحياة ولا يتخبط في ماله لعدم تجربته وخبرته،
فإن علمت رشده بعد البلوغ فادفع إليه بماله ليتصرف فيه، فإن لم تأنس منه الرشد وحسن
التصرف فلا تترك له المال يبدده بسوء تصرفه. لذلك يقول تعالى في هذا المعنى:* وَلاَ
تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ.. *[النساء: 5] ولم يقُلْ: أموالهم؛ لأن السفيه
لا مالَ له حال سَفَهه، بل هو مالكم لِتُحسِنوا التصرف فيه وتحفظوه لصاحبه لحين تتأكد
من رُشْده.
إذن: فالرشد الذي طلبه موسى من العبد الصالح هو سداد
التصرف والحكمة في تناول الأشياء، لكن هل يعني ذلك أن موسى ـ عليه السلام ـ لم يكن
راشداً؟ لا، بل كان راشداً في مذهبه هو كرسول، راشداً في تبليغ الأحكام الظاهرية.
أما الرشد الذي طلبه فهو الرشد في مذهب العبد الصالح،
وقد دلّ هذا على أنه طلب شيئاً لم يكن معلوماً له، وهذا لا يقدح في مكانة النبوة؛ لأن
الحق سبحانه وتعالى قال:* وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً *[الإسراء:
85] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم:* وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً *[طه: 114]
لذلك يقول الشاعر:كُلّما ازْدَدْتُ عُلوماً زِدْتُ إيقَانَاً
بجْهلي
لأن معنى أنه ازداد عِلْماً اليوم أنه كان ناقصاً بالأمس،
وكذلك هو ناقص اليوم ليعلمَ غداً.
والإنسان حينما يكون واسعَ الأفق محباً للعلم، تراه كلما
عَلِم قضية اشتاق لغيرها، فهو في نَهمٍ دائم للعلم لا يشبع منه، كما قال صلى الله عليه
وسلم: " منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال
".
والشاعر الذي تنَّبه لنفسه حينما دَعَتْه إلى الغرور
والكبرياء والزَّهْو بما لديه من علم قليل، إلا أنه كان متيقظاً لخداعها، فقال:قالتِ
النفْسُ قَدْ علِمْتُ كَثِيراً قُلْتُ هَذَا الكثيرُ نَزْعٌ يسيِرُثم جاء بمثل توضيحي:تمْلأُ
الكُوزَ غَرْفَةٌ من مُحيِط فَـيَرى أنَّـهُ المحيـطُ الكَبـيِرُثم يقول الحق سبحانه:
* قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً
*.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق