أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا
(67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ
أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ
لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ
أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ
أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا
نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
صدق الله العظيم
سورة الكهف
آيات 73، 72 ،71 ،70 ،69 ،68 ،67
خواطر الشيخ الشعراوي رحمه الله حول الآيات
خواطر الشيخ الشعراوي رحمه الله حول الآيات
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا
(67)
هنا يبدأ العبد الصالح
يُملي شروط هذه الصُّحْبة ويُوضّح لموسى ـ عليه السلام ـ طبيعة عِلْمه ومذهبه، فمذهبُك
غير مذْهبي، وعلمي من كيس غير كيسك، وسوف ترى مني تصرفات لن تصبر عليها؛ لأنه لا عِلْم
لك ببواطنها، وكأنه يلتمس له عُذْراً على عدم صَبْره معه؛ لذلك يقول: * وَكَيْفَ تَصْبِرُ
عَلَىا مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً
*.
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا
(68)
فلا تحزن لأني قُلت:
لن تستطيع معي صبراً؛ لأن التصرفات التي ستعترض عليها ليس لك خُبر بها، وكيف تصبر على
شيء لا عِلْمَ لك به؟
ونلحظ في هذا الحوار
بين موسى والخضر ـ عليهما السلام ـ أدبَ الحوار واختلافَ الرأي بين طريقتين: طريقة
الأحكام الظاهرية، وطريقة ما خلف الأحكام الظاهرية، وأن كلاً منهما يقبَل رأْيَ الآخر
ويحترمه ولا يعترض عليه أو يُنكره، كما نرى أصحاب المذاهب المختلفة ينكر بعضهم على
بعض، بل ويُكفِّر بعضهم بعضاً، فإذا رأَوْا مثلاً عبداً مَنْ عباد الله اختاره الله
بشيء من الفيوضات، فكانت له طريقة وأتباع نرى من ينكر عليه، وربما وصل الأمر إلى الشتائم
والتجريح، بل والتكفير.
لقد تجلى في قول الخضر:
* وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * [الكهف: 68] مظهر من مظاهر
أدب المعلّم مع المتعلِّم، حيث احترم رأيه، والتمس له العُذْر إن اعترض عليه، فلكُلٍّ
منهما مذهبه الخاص، ولا يحتج بمذهب على مذهب آخَر.
فماذا قال المتعلم
بعد أن استمع إلى هذه الشروط؟ * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ.. *.
قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا
أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
أي: أنا قابل لشروطك
أيُّها المعلم فاطمئن، فلن أجادلك ولن أعارضك في شيء. وقدّم المشيئة فقال: * إِن شَآءَ
اللَّهُ.. * [الكهف: 69] ليستميله إليه ويُحنَّن قلبه عليه * صَابِراً.. * [الكهف:
69] على ما تفعل مهما كان * وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً * [الكهف: 69] وهكذا جعل نفسه
مأموراً، فالمعلم آمراً، والمتعلّم مأمور.
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ
شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
وهذا تأكيد من الخضر
لموسى، وبيان للطريقة التي يجب اتباعها في مصاحبته: إنْ تبعتني فلا تسألْني حتى أخبرك،
وكأنه يُعلِّمه أدب تناول العلم والصبر عليه، وعدم العجلة لمعرفة كل أمر من الأمور
على حِدة.
ثم يقول الحق سبحانه:
* فَانْطَلَقَا... *.
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ
خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا
(71)
* فَانْطَلَقَا * سارا معاً، حتى ركبا سفينة، وكانت مُعَدَّة لنقل
الركاب، فما كان من الخضر إلا أنْ بادر إلى خَرْقها وإتلافها، عندها لم يُطِق موسى
هذا الأمر، وكبُرت هذه المسألة في نفسه فلم يصبر عليها فقال: * أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ
أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * [الكهف: 71]
أي: أمراً عجيباً أو
فظيعاً. ونسى موسى ما أخذه على نفسه من طاعة العبد الصالح وعدم عصيانه والصبر على ما
يرى من تصرفاته.
كأن الحقَّ ـ تبارك
وتعالى ـ يريد أن يُعلِّمنا أن الكلام النظري شيء، والعمل الواقعي شيء آخر، فقد تسمع
من أحدهم القول الجميل الذي يعجبك، فإذا ما جاء وقت العمل والتنفيذ لا تجد شيئاً؛ لأن
الكلام قد يُقَال في أول الأمر بعبارة الأريحية، كمن يقول لك: أنا رَهْن أمرك ورقبتي
لك، فإذا ما أحوجك الواقع إليه كنت كالقابض على الماء لا تجد منه شيئاً.
ونلحظ هنا أن موسى
ـ عليه السلام ـ لم يكتف بالاستفهام: * أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا.. * [الكهف:
71] بل تعدَّى إلى اتهامه بأنه أتى أمراً منكراً فظيعاً؛ لأن كلام موسى النظري شيء
ورؤيته لخرق السفينة وإتلافها دون مبرر شيء آخر؛ لأن موسى استحضر بالحكم الشرعي إتلاف
مال الغير، فضلاً عن إغراق ركاب السفينة، فرأى الأمر ضخماً والضرر كبيراً، هذا لأن
موسى يأخذ من كيس والخضر يأخذ من كيس آخر.
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ
صَبْرًا (72)
وهذا درس آخر من الخضر
لموسى ـ عليهما السلام ـ يقول: إن كلامي لك كان صادقاً، وقد حذرتُك أنك لن تصبرَ على
ما ترى من تصرفاتي، وها أنت تعترض عليَّ، وقد اتفقنا وأخذنا العهد ألاَّ تسألني عن
شيء حتى أُخبرك أنا به.
ثم يقول الحق سبحانه:
* قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ... *.
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي
مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
يعتذر موسى ـ عليه
السلام ـ عما بدر منه لمعلمه، ويطلب منه مسامحته وعدم مؤاخذته * وَلاَ تُرْهِقْنِي
مِنْ أَمْرِي عُسْراً * [الكهف: 73] أي: لا تُحمِّلني من أمر اتباعك عُسْراً ومشقة.
فسامحه الخضر وعاود السير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق