أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي
رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا
كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا
أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
صدق الله العظيم
سورة الأنعام آيات 161، 162 و 163
صدق الله العظيم
سورة الأنعام آيات 161، 162 و 163
خواطر الشيخ الشعراوي
رحمه الله حول الآية
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
و " ديناً قيماً " أي تقوم عليه مسائل الحياة،
وهو قائم بها، و " قيماً " مأخوذة من " القيمة " أو من "
القيام " على الأمر، وقام على الأمر أي باشره مباشرة من يصلحه، كذلك جاء الدين
ليصلح للناس حركة حياتهم بأن أعطاهم القيم، وهو قائم عليهم أيضاً: * دِيناً قِيَماً
مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً *.
وفي كل أمر مهم له خطره ومنزلته يأتي لنا الحق بلمحة
من سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام، لأنه صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه فيه القدر
المشترك الذي يجمع كفار مكة، وأهل الكتاب الذين يتمحكون فيه. فقالت اليهود: إبراهيم
كان يهوديًّا، وقالت النصارى: إن إبراهيم كان نصرانيًّا، وربنا يقول لهم ولنا:* مَا
كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً...
*[آل عمران: 67]
واليهودية والنصرانية جاءتا من بعده. أما بالنسبة للجماعة
الأخرى ففي بيئتهم، وكل حركات حياتهم، وتجاربهم ونفعهم من آثار إبراهيم عليه السلام
ما هو ظاهر وواضح. يقول الحق:* رَّبَّنَآ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ... *[إبراهيم: 37]
فسيدنا إبراهيم هو الذي رفع القواعد من البيت الحرام،
وهو الذي عمل لهم مهابة جعلت تجاربهم تذهب إلى الشمال وإلى الجنوب ولا يتعرض لها أحد،
وجاءت لهم بالرزق الوفير. وحين يقول الحق: * دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * [الأنعام: 161]
المقصود هو الدين الذي تعيشون في كنف خيرات آثاره، و
" الحنف " هو اعوجاج في القدم. وبطبيعة الحال لم يكن دين إبراهيم مائلاً
عن الحق والصواب بل هو مائل عن الانحراف دائم الاستقامة. ونعرف أن الرسل إنما يجيئون
عند طغيان الانحراف، فإذا جاء إبراهيم مائلاً عن المنحرف؛ فهو معتدل
.
ويقول الحق بعد ذلك: * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي... *
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
و " صلاتي " مقصود بها العبادة والركن الثاني
في الإِسلام الذي يتكرر كل يوم خمس مرات، وهي الركن الذي لا يسقط أبداً؛ لأن شهادة
أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله- كما قلنا سابقاً- يكفي أن تقولها مرة في
العمر، وقد يسقط عنك الصوم إن كنت لا تستطيع، وقد لا تزكي لأنه ليس لك مال، وقد لا
تستطيع الحج، وتبقى الصلاة التي لا تسقط أبداً عن العبد. وهي- كما نعلم- قد أخذت من
التكليف حظها من الركينة.
إن كل تكليف من التكاليف جاء بواسطة الوحي إلا الصلاة
فإنها جاءت بالمباشرة، وتلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه دون واسطة. وحين
يقول الحق: * إِنَّ صَلاَتِي * ، فهو يذكر لنا عمدة الأركان والتي اشتملت على كل الأركان
كما أوضحنا سابقاً. حتى إن الإِنسان إذا كان راقداً في مرض ولا يستطيع القيام فعليه
أن يحرك رأسه بالصلاة أو يخطر أعمال الصلاة على قلبه. ويقول الحق * وَنُسُكِي *. و
" النسك " يطلق ويراد به كل عبادة، والحق يقول:* لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا
مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ... *[الحج: 67]
" النسك
" إذن هو عبادة ويطلق بالأخص على أفعال كثيرة في الحج، مثل نسك الطواف ونسك السعي،
ونسك الوقوف بعرفة، ونسك الرمي، ونسك الجمار، وكل هذه اسمها مناسك، والأصل فيها أنها
مأخوذة من مادة " النسيكة " وهي السبيكة من الفضة التي تصهر صهراً يُخرج
منها كل المعادن المختلطة بها حتى تصير غاية في النقاء. فسميت العبادة نسكاً لهذا،
أي يجب أن تصفى العبادة لله كما تصفى سبيكة الفضة من كل المعادن التي تخالطها: * قُلْ
إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي
*.
وهنا أمران اختياريان، وأمران لا اختيار للإِِنسان فيهما،
الصلاة والمناسك كلاهما داخل في قانون الاختيار، لكن المحيا والممات لا يدخل أي منهما
في قانون الاختيار؛ إنهما في يد الله، والصلاة والنسك أيضاً لله، ولكن باختيارك، وأنت
لا تصلي إلا لأنك آمنت بالآمر بالصلاة، أو أن الجوارح ما فعلت كذا إلا لله. إذن فأنت
لم تفعل شيئاً من عندك أنت، بل وجهت الطاقات المخلوقة لله لتأدية المنهج الذي أنزله
الله إذن إن أردت نسبة كل فعل فانسبه إلى الله.
ولماذا جاء بالصلاة والنسك وكلاهما أمر اختياري؟؛ لأنه
إن كان في ظاهر الأمر لكم اختيار، فكل هذا اختيار، فكل هذا الاختيار نابع من إيجاد
الله لكم مختارين. وهو الذي وضع المنهج فجعلكم تصلون، أو: إن صلاتي لله ونسكي لله،
أي أن تخلص فيها، ولا تشرك فيها، ولا تصلي مرائياً، ولا تصنع نسكاً مرائياً، ولا تذهب
إلى الحج من أجل أن يقولوا لك: " الحاج فلان " أبداً، بل اجعلها كلها لله؛
لأنك إن جعلتها لغيره فليس لغيره من القدرة على الجزاء ما يجازيك الله به؛ إن جعلتها
لغيره فقد اخترت الخيبة في الصفقة؛ لذلك اجعل الصلاة والنسك للذي يعطيك الأجر. * قُلْ
إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * [الأنعام:
162]
والحياة هبة الله، وإياك أن تصرف قدرة الحياة ومظاهر
الحياة في غير ما يرضي الله. فينبغي أن يكون حياتك لله لا لشهوتك، ومماتك لله لا لورثتك،
وتذكر جيداً لأن الحق يقول بعد ذلك: * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ... *
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
وهذا القول يدل على أن بعض الخلق قد يجعل لله شريكاً
في العبادة فيجعل صلاته ظاهرية رياء، ومناسكه ظاهرية رياء، وحياته يجعلها لغير واهب
الحياة. ويعمل حركاته لغير واهب الحياة، ويجعل مماته للورثة وللذرية؛ لذلك عليك أن
تتذكر أن الله لا شريك له. *...وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ
* [الأنعام: 163]
وهذا أمر من الله لرسوله، وكل أمر للرسول هو أمر لكل
مؤمن برسالته صلى الله عليه وسلم، والأوامر التي صدرت عن الرب هي لصالحك أنت. فسبحانه
أهل لأن يُحب، وكل عبادة له فيها الخير والنفع لنا، وأنا لا أدعيه لنفسي بل هو عطاء
من ربكم وربي الذي أمر. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى حينما رأى أن رسوله صلى الله عليه
وسلم مشغول بأمر أمته أبلغنا:* عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ *[التوبة: 128]
وفي كل شيء كان صلى الله عليه وسلم يقول: أمّتي أمتي
أمتي أمتي، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يطمئن رسوله على محبوبية أمته فقال له:
" إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤوك
".
والحديث بتمامه كالآتي:
" عن
عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله
عز وجل في إبراهيم: * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي
فَإِنَّهُ مِنِّي... * الآية.
وقال عيسى عليه السلام: * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ
عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *.
فرفع يديه وقال: " اللهم أمتي أمتي " وبكى،
فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسلْه ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل
عليه الصلاة والسلام، فسأله وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو اعلم،
فقال عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سَنُرضيك في أمتك ولا نسوؤك ".
ونزل قوله الحق:* وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىا
*[الضحى: 5]
روي عن علي رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:
" إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار
".
ويذيل الحق الآية بقوله: * وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *
وحين يقول صلى الله عليه وسلم: وأنا أول المسلمين في
أمته فهذا قول صحيح صادق لأنه قبل أن يأمر غيره بالإسلام آمن هو بالإسلام، وكل رسول
أول المسلمين في أمته، لكن هناك أناس يقولون: لنأخذ العبارة هكذا، ونقول: إن الرسول
صلى الله عليه وسلم له منزلة بين رسل الله أجمعين تتجلى في أنه أخذ العهد على غيره
له، ولم يؤخذ العهد علية لأحد. فإن أول المسلمين في أمته، فهو أول المسلمين بين الرسل
أيضآ، وإن لم تأخذها حدثاً خذها للمكانة. وأضرب هذا المثل: هب أن كلية الحقوق أنشئت
مثلا سنة كذا وعشرين، لكل سنة لها أول من التلاميذ ثم جاء واحد وحصل على 100% هذا العام
فنقول عنة: إنة الأول على كلية الحقوق من يوم أن أنشئت.
ويقول الحق بعد ذلك: * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ... *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق